Monday, December 7, 2009

كلوا بامية .. يا أولاد النامية!!

"افرض يعني مثلا مثلا انه مافيش حكومة" في أي دولة عربية وأن وزارة النقل عندنا ظلت بلا وزير لمدة قرن من الزمان وأن أي مؤسسة أو شركة عربية ظلت ألف عام بلا رئيس وان نادي الزمالك ظل بلا مدير فني لعشرة مواسم قادمة وان المنتخب الوطني أصبح تحت قيادة المعلم عكوة بتاع الكبدة وان نتيجة انتخابات أي برلمان عربي كانت "لم ينجح أحد" وظل البرلمان مقاعد بلا نواب ومبني بلا معني لعشرة قرون قادمة وان كل الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة قررت في لحظة صدق مع النفس حل نفسها أو حل وسطها وظل البلد بلا أحزاب سياسية مليون سنة وان المدارس والجامعات قررت في لحظة مكاشفة أن تتحول إلي مواقف وجراجات سيارات أو مدافن للقمامة.. افرض يعني مثلا مثلا ان الصحف والفضائيات العربية تحولت إلي حمامات شعبية أو مبولة عمومية وان أصحاب الأقلام وأنا أولهم كفوا الناس شرهم وخيرهم وقرروا أن "يسرحوا بنداغة ومناديل ورق" في الشوارع.. إفرض انه تم تعطيل قوانين المرور والوظيفة والتأمينات وكل التشريعات وإلغاؤها وتمزيقها.. "افرض أنه مافيش نقيب للصحفيين أو أي نقابة".
صارحوني بالله عليكم.. "تفرق كتير يعني؟" -إنني أري انها "ماتفرقش خالص"- بل ربما يكون انعدام هذه الأمور كلها أفضل.. واللاوجود في أمة العرب أفضل من الوجود.. واللاشيء أفضل من أي شيء والغياب خير من الحضور.. لأن وجود أي شيء أو أي كيان في هذه الأمة يحلو لي أن أسميه الوجود العدمي.. وكل واحد منا يتصرف ويسلك في حياته كأن كل هذه الأشياء معدومة رغم أنها موجودة.. كل واحد منا "ماشي علي بطنه وفرجه".. وليس صحيحا انه "ماشي بدماغه" فلا وجود للدماغ عند العربي.
ليس منا من يتصرف ويسلك علي أساس أن في بلده دستورا أو قوانين أو قواعد عامة أو قيما جماعية.. وقد سألني أحدهم يوما: لماذا إذن سنوا القوانين وأرهقوا أنفسهم في صياغة دساتير وإقامة حياة نيابية سليمة "علي رأي مبادئ ثورة يوليو"..؟ فقلت: سنوا القوانين لكي نخالفها.. وصاغوا الدستور لكي نخرقه.. وأقاموا حياة نيابية سليمة لكي نقبض من المرشحين ونسترزق في موسم الانتخابات.. فعلوا كل ذلك ليختبروا قوتنا.. وقوة العربي وقدرته في المخالفة والخرق وضعفه في الالتزام والانضباط.. "والسجن للرجالة".. لكن الالتزام بالقانون والقواعد والقيم "للنسوان".
حتي الدين يري العربي أن الالتزام الحقيقي به وليس المظهري تخلف وظلامية ويري في مخالفته ومهاجمته استنارة وإبداعاً وحرية تعبير.. والعربي كما يقدم الرشوة للبشر أمثاله لكي يخالف ويفسد فإنه يتعامل في تدينه المظهري بهذا المنطق ويتصور أنه يمكن أن يقدم الرشوة لرب العزة سبحانه وتعالي.. فما دام يصلي ويؤم الناس فإن من حقه أن يزني ويدس ويتآمر.. وما دام يقدم رشوة الحج فإن من حقه أن يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه ويبدأ تجديد تلك الذنوب حتي موسم الحج القادم.. فهو يغسل ذنوبه بفلوسه.. أي يقدم الرشوة.. وكما ان رشوة البشر رخصة للمخالفة والفساد وأكل حقوق وأموال الناس فإن العربي يري أن صلاته وصيامه وزكاته وحجه.. رشاوي ورخص تتيح له أن يفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل.. وقد قيل ربما علي سبيل النكتة أو هي واقعة حقيقية أن هناك جماعة يظلون طوال النهار وبعض الليل في غاية الالتزام والانضباط وفور الانتهاء من صلاة العشاء يبدأون جلسات وجولات الخمر والمنكر ويقولون لمن يستنكر ذلك: "ربنا مالوش حاجة عندنا بعد العِشا".
ونحن في أمثالنا العامية نقول بمنتهي الغباء: "ساعة لقلبك وساعة لربك".. أي أن مالقلبك ليس لربك. وما لربك ليس لقلبك. وان الله سبحانه وتعالي بهذا المنطق خارج قلبي.. وأن عبادتي لله مصلحة وفائدة لله عز وجل وليست مصلحة وفائدة لي.. أي ان عبادتي لله رشوة لكي أعربد في الساعة المخصصة لقلبي.
* * *
والذين يسيرون علي هذا المنهج لا يقسمون قسمة الحق والعدل.. فهم يعطون ساعة لربهم وثلاثا وعشرين ساعة لقلوبهم.. والقلوب ليست مقصودة بمعناها الحرفي في المثل العامي وإنما المقصود البطون والفروج.
"أنا شايف إنها ما تفرقش".. فلا قيمة للوجود العدمي لكل هذه "الهيصة والزمبليطة" في أمة العرب.. لا حاجة لنا بالقوانين والدساتير والبرلمانات والأحزاب والمجالس واللجان والحكومات والمؤسسات والمناصب والرتب "اللي تسد عين الشمس" .. لا مبرر للصحف والفضائيات والنخب والنجوم.. لأن المنهج الذي يحكم أمة العرب ويلتزم به كل الناس بلا استثناء راسخ وقوي ويفرض نفسه في كل لحظة.. وأعني به منهج ودستور ونظرية "كلوا بامية".. أعني به منهج "حادي بادي.. سيدي محمد البغدادي.. شالوا وحطوا.. كله علي دي".
أنت بريء أو مجرم بطريقة "كلوا بامية وحادي بادي".. نحن نختار نواب البرلمان وأي مرشحين في أي انتخابات بمنهج "كلوا بامية وحادي بادي".. نحن نختار الناس للمواقع والمناصب بطريقة "كلوا بامية".. نحن نجعل الأقزام مردة وعماليق. ونجعل العماليق أقزاما. ونجعل النكرات معارف والمعارف نكرات.. ونرفع الجرذان إلي مواقع النجوم ونهوي بالنجوم إلي قاع سحيق بقاعدة "كلوا بامية.. وحادي بادي".. "كلوا بامية" تجعل السفلة والحثالة والحمقي والنفايات ملوك الإعلام والفضاء.. وتجعل المفكرين وأصحاب العقول كلاب سكك.. "كلوا بامية" تجعل النشالين واللصوص وتجار الصنف وملوك الليل والدعارة رجال أعمال ومليارديرات.. "كلوا بامية".. لا تعرف القواعد ولا التراتبية ولا المنطق ولا التطور الطبيعي للأمور.. "كلوا بامية" لا تجعل أي شيء أو أي شخص في مكانه الصحيح.
وفي أمة العرب لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنجح توقعاتك.. لا يمكن أن تؤدي المقدمات إلي النتائج المنطقية.. لا يمكن القياس.. والاستثناء هو القاعدة.. والشذوذ هو السائد. واللامنطق هو المنطق.. ولا يمكن أن تجد جوابا لأداة الاستفهام "لماذا".. لذلك كثر فينا الدجل والشعوذة وضرب الودع وفتح المندل.. والاعتماد في كل أمورنا علي الخرافة لأن المنطق هرب من هذه الأمة "ونفد بجلده".. فالمنتخب الوطني ينهزم لأننا رأينا قطة سوداء قبل المباراة.. والفريق الذي أشجعه فاز لأن فلانا "وشه حلو".. ولأن حسن شحاتة يستعين بمشعوذ من إثيوبيا أو السودان.. ولأن حسام حسن "وشه حلو" علي الزمالك.. وواحد زائد واحد لا تساوي اثنين أبداً في هذه الأمة.. فهي قد تساوي صفرا وقد تساوي مليونا حسب نظرية "كلوا بامية".
".. كلوا بامية" تجعل الداعر داعية.. والتلاميذ ينجحون ويرسبون بطريقة "كلوا بامية".. والوظيفة تأتيك بمنهج "كلوا بامية".. فأنت دبلوم صنايع أو حاصل علي الابتدائية بالعافية.. لكنك تتحول إلي أعظم إعلامي فضائي.. وأنا مجنون ومختل عقليا لكن "كلوا بامية" تجعلني عبقري زماني ومبدع عصري وأواني.
* * *
كل هذا "الحادي بادي والكلوا بامية".. يجعلك تقف عاجزا تماما أمام تفسير الظواهر العربية.. واللامنطق في هذه الأمة هو الذي يكسب.. لذلك يطلع فرعون موسي.. ويطلع موسي فرعون "واللي حسبته عمري ما لقيته".. كل شيء بركاوي أي بالبركة.. فلا يصح أن تسأل لماذا.. هي لحظة مزاج عال جعلت الكلب أسدا.. وهي لحظة "عكننة" جعلت الوزير خفيرا.. لذلك نظل "نخمن ونحزر ونفزر" بلا جدوي.. لذلك يصدق الناس الشائعات والأقاويل والأكاذيب والجملة التي علي ألسنتنا جميعا في كل حدث "والله موش بعيد.. وليه لأ؟".
العشوائية ليست مباني مخالفة ولكنها منهج حياة.. البشر أنفسهم مخالفون.. وقد قلت لكم من قبل يا أصدقائي شادي أحمد فؤاد- من فاقوس- شرقية. والسعيد الأديب والمنشاوي وأحمد المصري أن كلاً منا مخالف لرخصة بنائه.. هناك من رخصته طابقان علي الأكثر لكنه ارتفع إلي عشرين طابقا.. وهناك من رخصته عشرون طابقا لكن امكانياته "يدوب تسمح له يرمي الأساسات بس".. لا أحد في مكانه ولا في ارتفاعه الحقيقي.
كل هذا وأكثر منه محكوم بمنهج "كلوا بامية".. وهذا المنهج ليس خاصا بالدول النامية أو التي نسميها نامية.. لكنه خاص فقط بالعرب وحدهم.. حتي القضايا التي ننفخ في نارها أو نهيل عليها التراب لنطفئها محكومة بمنطق ومنهج "كلوا بامية" وقاعدة "حادي بادي" "سيدي محمد البغدادي.. شالوا وحطوا.. كله علي دي"..
ومنهج "كلوا بامية" يحكم أمة العرب من قمتها إلي قاعدتها.. فلا فرق بين النخبة والعوام ولا بين أهل القمة وأهل القاع في التفكير الخرافي والعشوائية في اتخاذ القرار وطرح الرؤي.. والفرق ربما يكون في المصطلحات لكن المعني الخرافي واحد.. والعشوائية والمزاجية واحدة "هو كدة.. إذا كان عاجبكم".. ما أريكم إلا ما أري وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.. الهوي رب مطاع والناس عند صاحب الحل والعقد والقرار سقط متاع.. وعندما يسود منهج "كلوا بامية" فإن كل امرئ يصلح لأي موقع.. والكل عباقرة في طريقة "كلوا بامية" التي تجعلك تقف عاجزا عن التفكير والتفسير.. لماذا سبقت السلحفاة الغزال؟ .. لماذا فاز هذا الفريق "الأكتع" وخسر هذا الفريق القوي المنظم؟ .. في طريقة "كلوا بامية" .. "ناس تلعب وناس تكسب".. ومن يكسب لا يلعب ومن يلعب لا يكسب.. ومن يستحق الرسوب "يطلع الأول".. ومن يستحق أن "يطلع الأول تطلع روح أمه".. فالنظام التعليمي هو اللانظام التعليمي.. والمنظومة الاعلامية هي اللامنظومة الاعلامية.. "وناس بتكسب ولا تتعبش وناس بتتعب ولا تكسبش".
* * *
وتخيل يا بركة أننا حتي في منهج "كلوا بامية" نغش في اللعب.. حتي في طريقة "حادي بادي" نمارس النصب والاحتيال لأن الهوي رب مطاع والناس سقط متاع.. أي أننا نغش في الغش نفسه.. أو نمارس النصب في النصب والحرام في الحرام أي الحرام المركب.. تماما مثل الذي يبيع الخمر فهو يمارس التجارة في الحرام.. "لأ.. وفوق كده وكده" يبيع خمورا مغشوشة.. يعني يتاجر في الحرام الحرام.. أو الحرام المغشوش.. أو يمارس الحرام المركب أو "دوبل حرام" أو الحرام المضروب في الحرام.. هل هناك أكثر من الغش في الغش؟
وسلوكيات الناس في الأمة من القاع إلي القمة تستعصي علي التوصيف والرصد ووضعها تحت عنوان واحد.. يعني من المستحيل أن تعرف "ملة جبلة" الناس في أمة العرب.. ومن المستحيل أن تقيس اتجاهات الرأي العام العربي تجاه أي قضية.. "يعني الناس عايزة إيه وموش عايزة إيه.. ما تعرفش".. ما معني الفضيلة وما معني الرذيلة في هذه الأمة؟ لا أحد يعرف.. الناس مقتنعون بما تقول أم غير مقتنعين.. لا أحد يعرف.. "الناس عايزة حرية وديمقراطية.. أو عايزة ديكتاتورية وسلطوية.. أو عايزة ألمظية ومهلبية وملوخية".. لا أحد يعرف.. ولا أنا أعرف ماذا أريد.. نحن نولد ونتزوج ونتوظف ونحب ونكره ونموت بطريقة "كلوا بامية".. نحن نحارب ونسالم ونتفق ونختلف ونعاقب ونكافئ وندين ونؤيد ونعارض.. بطريقة ومنهج "كلوا بامية".. ولا أجد وصفا لهذه الأمة.. ولا أعرف كيف أناديكم.. هل أمتكم نائمة أم نامية؟.. فلتكن نامية مجازا.. ويا أولاد النامية.. كلوا بامية!!
نظرة
العرب قوم شفاهيون.. والشفاهي أو الشفهي أو الشفوي يروي بلا دليل ويحكي بلا سند ويصدقه الناس أو يكذبونه بطريقة "كلوا بامية".. والمنطق لا مكان له في الشفاهة والسماع وإنما يقنع القائل السامع بقدرته علي الحكي والإلقاء.. وبثقة وحب السامع له.. وقيل ان الشفاهة هي التي جعلت العرب قوما متزيدين مبالغين حتي إن هناك تعريفا للبلاغة بأنها المبالغة.. ولأن العرب شفاهيون وسماعيون فقد أسرفوا في استخدام "أفعل" التفضيل فهذا أعظم وهذه أجمل وهذا أقوي.. والروايات كلها بأفعل التفضيل.. حتي قال كثيرون في مدحهم: ما رأيت اندي راحا ولا أقوي حجة ولا ألطف حديثا ولا أزهد في الدنيا ولا أرجي للآخرة ولا أعلم بالقرآن والحديث من فلان.. وقيل هذا المدح في غير واحد من الناس.. وكذلك يقال في الذم.. وقد أسرف العرب علي أنفسهم في تفضيل القديم علي الحديث علي الاطلاق وبلا استثناء.. وفي كتب التفسير والتراث عشرات الأمثال مثل القول بأن القمحة أي حبة القمح كانت في القديم أكبر من التفاحة وأن الرجل كان من الطول والضخامة والقوة بحيث يغمس يده في البحر فيستخرج منه السمك ويرفع يده في الجو فيشويه علي جذوة الشمس ثم يهبط به إلي فمه فيلتهمه.. وقد أثني جلساء أحد الولاة عليه بكل أفعال التفضيل.. علي طريقة ما رأينا في حياتنا أعظم منك.. وكان بينهم عالم ضرير صامت فسأله الوالي: وأنت يا شيخ.. هل رأيت في حياتك أعظم مني؟ فقال: دعني أراك أولاً ثم اسألني هل رأيت أعظم منك أو دونك أو مثلك!!
بقلم : محمد أبو كريشة

No comments:

Post a Comment